علاقة العمل بالإيمان من خلال الواقع
وهنا نحتاج أن نقف وقفة طويلة لنستجلي علاقة الإيمان بالعمل، والعقيدة بالحركة، من خلال مسيرة هذا الدين الواقعية ووجوده المادي في الأرض.
إن الإعداد لتلك المهمة الضخمة -المشار إليها- يبدو ظاهراً جلياً في كل مرحلة من مراحل الدعوة، بل في كل خطوة من خطواتها، فالأمر كله جد ونصب، وكله صبر وابتلاء.
1- فمنذ اللحظة الأولى لنزول هذا الدين تأتي الشدة والإجهاد في معاناة تلقي الوحي، وتبدأ المخاوف والنذر الثقيلة لمستقبل من يحمله.
فقد روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: { أن أول ما بُدئ به الرسول من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بـغار حراء فيتحنث فيه -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء. فجاءه الملك، فقال: اقرأ, فقلت: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ, فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني، فقال: ((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ))[العلق:1-3] فرجع بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لـخديجة -وأخبرها الخبر-: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلا، والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلَّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى -ابن عم خديجة- وكان امرأً تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي.
فقالت له خديجة: يابن عم، اسمع من ابن أخيك.
فقال له ورقة: يابن أخي، ماذا ترى؟
فأخبره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خبر ما رأى.
فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نَزَّل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك.
فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أو مخرجي هم؟
قال: نعم، لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي } .
فمن المعاناة الصعبة في تلقي الوحي إلى السنة الربانية "لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي" ؛ جاء الإيذان بأمر عظيم منتظر.
2- ثم بعد فترة الوحي هذه -التي هي كأنما هي فترة استقرار لروع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد تلك المفاجأة الكبرى- تأتي خطوة -أو جولة- أخرى تحدث عنها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائلاً: { بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصري، فإذا الملك الذي جاءني بـحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه فرجعت فقلت: زملوني، فأنزل الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ))[المدثر:1-5] الآيات }.
وهي آيات كلها -كما ترى- أوامر سريعة متلاحقة، تأمر بالمبادرة والمفاصلة والصبر، وتنقل صاحب الشأن من هدأة الروع النفسي إلى ميدان الإنذار الأكبر للعالم أجمع.
ومنذ أن نزلت ((قُمْ فَأَنْذِرْ))[المدثر:2] قام صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قياماً جهادياً متواصلاً دائباً، نازل به قومه والعرب قاطبة، واليهود ثم الامبراطورية الرومانية...
فكان كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وكتب الذل والصغار على من خالفني..} سبق تخريجه قريباً.
3- بعد ذلك -وما هو منه ببعيد- نزل الأمر بالقيام مرة أخرى ومعه مهام جديدة، فقد نزل مطلع سورة المزمل: ((يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً * إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً * رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً * وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً * وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً * إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالاً وَجَحِيماً))[المزمل:1-12] الآيات.
وهذه السورة تعطي -أبرز ما تعطي- الزاد الأصيل الذي لابد منه لمن يريد حمل هذه الدعوة ومقارعة العالمين بها، ذلك هو زاد الصلة القوية بالله، والتزكية الروحية بالتقرب إليه، ومناجاته في أرجى ساعات المناجاة وأصفاها.
وامتثل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -كالعادة- وتزود بهذا الزاد الزكي، وشاركه في ذلك صحبه الكرام.
فقد روى الإمام أحمد ومسلم رحمهما الله من حديث سعد بن هشام -ضمن قصة جديرة بالاطلاع أنه سأل عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عن قيام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت له: {ألست تقرأ يا أيها المزمل؟
قلت: بلى، قالت: فإن الله عز وجل افترض قيام الليل في أول هذه السورة فقام نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه حولاً، وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهراً في السماء حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف، فصار قيام الليل تطوعاً بعد فريضة}.
وفي روايات لغيرهما أنهم قاموا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم أو انتفخت ثم إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استمر على ذلك -التزاماً من عند نفسه- فكان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله! وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟
قال: {أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً} .
4- وصدع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالدعوة، وسفه أحلام المشركين، وعاب آلهتهم، فثارت عليه قريش ثورة رجل واحد، وأثارت معها العرب قاطبة، ولقي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأذى والبلاء صنوفاً وألواناً من ذلك ما رواه عروة بن الزبير رضي الله عنه حين قال: {سألت ابن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: بينا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه على عنقه، فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل إليه أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله }
5- ومشهد آخر للأذى التي تتورع عنه النفوس الطاغية الدنيئة يرويه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ وهو: {أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس؛ إذ قال بعضهم لبعض: أيكم يجيء بسلى جزور بني فلان فيضعه على ظهر محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فجاء به، فنظر حتى إذا سجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وضعه على ظهره بين كتفيه -وأنا أنظر لا أغني شيئاً، لو كانت لي منعة!- قال: فجعلوا يضحكون ويحيل -أو يميل- بعضهم على بعض}.
6- هذا عدا الأذى الأكبر الحاصل من تكذيبه وهو الناصح الأمين، والإعراض عنه وهو النذير المبين بين يدي عذاب شديد، وعدا ما افتراه عليه قومه ونبزوه من ألقاب الزور؛ كقولهم: إنه شاعر أو كاهن أو ساحر أو مجنون، أو يتلقى الوحي عن بعض الأعجمين، أو اكتتبه من أساطير الأولين وأعانه عليه قوم آخرون، وغير ذلك مما حكاه الله عنهم في كتابه العزيز، وهو بلا شك أشد وقعاً على النفوس البريئة من ضرب السيوف ووقع النبال.
ولهذا طمأنه ربه وصبره وسلاه، فقال: ((فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً))[الكهف:6] أي: مهلكها بالحزن والأسف.
وقال: ((أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ))[فاطر:8].
وقال: ((قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ))[الأنعام:33].
7- وقد حدّث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن مشهد من مشاهد الأسى القاتل والأسف البالغ حين يبلغ الحد بالإنسان أن ينسى نفسه في غيبوبة الهم والحزن، قالت عائشة رضي الله عنها: {يا رسول الله! هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟
قال: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل ابن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بـقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم عليّ، ثم قال: يا محمد! فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً } .
8- وقد عانى أصحابه -رضي الله عنهم- أشد المعاناة، وما تعذيب آل بلال وآل ياسر إلا نماذج من ذلك، بل إن الأذي ليصل إلى أشراف القوم من أمثال الصديق رضي الله عنه .
ومع ذلك كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينفث في أرواحهم الأمل، ويذكرهم بسنة الله في أنبيائه والدعاة إليه على النحو الذي رأيناه مع ملك الجبال.
فقد روى البخاري في (باب ما لقي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه من المشركين) عن خباب رضي الله عنه قال: {أتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو متوسد بردة وهو في ظل الكعبة -وقد لقينا من المشركين شدة- فقلت: يا رسول الله! ألا تدعو الله لنا؟ فقعد وهو محمر وجهه فقال: لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله -زاد بيان- والذئب على غنمه} .
9- وبلغ الأذى قمته في الحصار المادي والمعنوي الذي ضربته قريش ظلماً وعدواناً على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه ومن عطف عليهم من قرابتهم .
قال الزهري: ''ثم إن المشركين اشتدوا على المسلمين كأشد ما كانوا حتى بلغ المسلمين الجهد، واشتد عليهم البلاء، واجتمعت قريش في مكرها أن يقتلوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علانية.
فلما رأى أبو طالب عمل القوم جمع بني عبد المطلب وأمرهم أن يدخلوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شعبهم ويمنعوه ممن أراد قتله، فاجتمعوا على ذلك مسلمهم وكافرهم, فمنهم من فعله حمية، ومنهم من فعله إيماناً ويقيناً، فلما عرفت قريش أن القوم قد منعوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واجتمعوا على ذلك، اجتمع المشركون من قريش، فأجمعوا أمرهم أن لا يجالسوهم ولا يبايعوهم ولا يدخلوا بيوتهم حتى يسلموا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للقتل، وكتبوا في مكرهم صحيفة وعهوداً ومواثيق؛ لا يقبلوا من بني هاشم أبداً صلحاً، ولا يأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل .
فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين، واشتد عليهم البلاء والجهد، وقطعوا عنهم الأسواق، فلا يتركوا طعاماً يقدم مكة ولا بيعاً إلا بادروهم إليه فاشتروه؛ يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ..''
ثم ذكر تخوف أبي طالب من اغتيال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما دبر لدرء ذلك من الحماية وما أصاب المسلمين من الجهد.
وقال ابن إسحاق: ''ثم عدوا على من أسلم فأوثقوهم وآذوهم، واشتد البلاء عليهم، وعظمت الفتنة، وزلزلوا زلزالاً شديداً -وذكر ما بلغ بهم من الجهد الشديد- حتى كان يسمع أصوات صبيانهم يتضاغون من وراء الشعب من الجوع''.
قال السهيلي: ''في الصحيح أنهم جهدوا حتى كانوا يأكلون الخبط وورق السمر، حتى إن أحدهم يضع كما تضع الشاة '' .
10- وصل الأمر إلى حد أن المؤمنين لا يستطيعون دعوة الناس إلى الله، ولا يستطيع الداخل في الإسلام حديثاً أن يجاهر بذلك، كما يتجلى في قصة إسلام أبي ذر التي رواها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: {لما بلغ أبا ذر مبعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله ثم ائتني.
فانطلق الأخ حتى قدمه، وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلاماً ما هو بالشعر.
فقال: ما شفيتني مما أردت.
فتزود وحمل شنة له فيها ماء حتى قدم مكة، فأتى المسجد فالتمس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا يعرفه، وكره أن يسأل عنه حتى أدركه بعض الليل، فرآه علي فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح! ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد، وظل ذلك اليوم ولا يراه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه، فمر به علي فقال: أما آن للرجل أن يعلم منزله؟ فأفاق فذهب به معه لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء.
حتى إذا كان يوم الثالث فعاد علي على مثل ذلك، فأقام معه ثم قال: ألا تحدثني ما الذي أقدمك؟ قال: إن أعطيتني عهداً وميثاقاً لترشدنني فعلت! ففعل فأخبره، وقال: فإنه حق، وهو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا أصبحت فاتبعني فإني إن رأيت شيئاً أخاف عليك قمت كأني أريق الماء، فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي.
ففعل، فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودخل معه، فسمع من قوله وأسلم مكانه.
فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري.
قال: والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم، فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم قام القوم فضربوه حتى أوجعوه، وأتى العباس فأكب عليه، قال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار؟! وأن طريق تجارتكم من الشام عليهم؟ فأنقذه منهم، ثم عاد من الغد لمثلها، فضربوه وثاروا إليه، فأكب العباس عليه}
هكذا كانت المعاناة وكان الجهاد قبل الهجرة، بل قبل نزول الفرائض.
وهنا لا بد من وقفة سيأتي لها مزيد بيان:
إن بعض السلف يحمل قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة} ونحوه من النصوص والروايات المطلقة على أن ذلك قبل نزول الفرائض وذلك ليردوا على المرجئة في قولهم: إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان، مستدلين بمثل هذه النصوص، وهذا أحد أوجه الرد عليهم، غير أنه لا يعني أن هؤلاء السلف كانوا يظنون أن الإيمان قبل نزول الفرائض كان مجرداً عن العمل، مقتصراً على تصديق القلب وقول اللسان، فهذا ما لا يجوز أن يظن بهم وهم أعرف الناس بمعنى لا إله إلا الله وأعلمهم بهذه المعاناة الكبرى والواجبات الثقيلة التي تلقاها المؤمنون الأولون -وعلى رأسهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبل نزول الفرائض، وهو ما أفاض القرآن المكي في الحديث عنه تثبيتاً وتسلية وتوجيهاً وتذكيراً.
إن شهادة أن لا إله إلا الله لم تكن مجرد كلمة تقال باللسان، ولا يمكن أن تكون كذلك في أي مرحلة من مراحل الدعوة، فضلاً عن مرحلة التأسيس التي هي أشق المراحل وأهمها، وإلا فما معنى تلك المعاناة القاسية وما موجبها؟!
وإنما كانت هذه الشهادة نقلة بعيدة ومعلماً فاصلاً بين حياتين لا رابطة بينهما: حياة الكفر وحياة الإيمان، وما يستلزمه ذلك من فرائض وتعبدات، ومشقات أعظم وأكبر من فريضة الصلاة والزكاة ونحوها.
1- من ذلك: فريضة التلقي الكامل عن الله ورسوله، ونبذ موازين الجاهلية وقيمها وأخلاقها وأعرافها وتشريعاتها.
2- ومن ذلك: الولاء المطلق لله ورسوله، والعداء الصارم للكفار ولو كانوا آباءً وإخواناً وأزواجاً وعشيرة.
3- ومن ذلك: فريضة الصبر على الأذى في الله، الذي لا تطيقه إلا نفوس سمت إلى قمة تحمل الفرائض والواجبات، حتى إن الواحد ليكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يلقى في النار.
وهذا ونحوه ما كان يعانيه بلال وهو يُسحب في رمضاء مكة وتلقى عليه الأثقال، وما يكابده سعد وهو يرى أمه تتلوى جوعاً، فيقسم لها لو أن لها مائة نفس فتظل تخرج نفسًا نفسًا حتى تهلك لما رجع عن دينه، وما كان آل ياسر يلقونه وهم يتعرضون لأعظم بلاء تشهده أسرة مضطهدة، وهو ما واجه أبو ذر حين صاح أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وغير ذلك كثير وكثير مما كان قبل أن تنـزل الفرائض!
إن في إمكان الإنسان أن يصلي ما شاء الله له، وينفق بما شاء الله له دون أن يناله كبير مشقة، ولكن أي إنسان هذا الذي يستطيع أن يخالف عادة اجتماعية درج عليها المجتمع والأقارب أجيالاً، ويتحدى هؤلاء بمخالفتها؟
أو يستطيع أن يقلع عن عادة نفسية وصلت به حد الإدمان؟
فما بالك إذا كان الأمر ليس مجرد مخالفة عادة أو تقليد، وإنما هو مفاصلة كاملة ومنابذة تامة لكل عبادة جاهلية وقيمة جاهلية وعرف جاهلي وميزان جاهلي، ثم هو مع ذلك زجر قاطع للنفس عن شهواتها وملذاتها , ومراقبة شديدة لها، ولهذا رأينا النماذج الكثيرة في الجيل الأول ممن يشهد أن لا إله إلا الله فيعود من فوره إلى بيته ليحطم الأصنام التي طالما عبدها وليقطع العلائق التي طالما وثقها .
إنه حتى على المنطق الجاهلي لا يصح أن نتصور إيماناً بدون تكاليف، وشهادة بلا أثر في واقع الحياة، وإلا أفكان الجاهليون يقتلون مواليهم ويعذبون أبناءهم وإخوانهم ويقطعون أرحامهم لمجرد كلمة تقال باللسان أو نظرية ذهنية في المعرفة؟
11- وهكذا كانت كل خطوة من خطوات الدعوة تسير على الشوك والأذى، حتى كانت الخطوة الفاصلة بالهجرة إلى المدينة، فاكتنفها من المصاعب والشدائد ما هو أشهر من أن يذكر، فقد كانت عيون قريش تلاحقه ورصدها يطارده، حتى قلبوا الجبال والمغارات إلى أن وقفوا على الغار نفسه الذي كمن فيه هو وصاحبه، وكانوا من العثور على فريستهم قاب قوسين أو أدنى.
قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: {كنت مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الغار فرأيت آثار المشركين، قلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم رفع قدمه -وفي رواية أحمد: نظر إلى قدميه- رآنا، قال: ما ظنك باثنين الله ثالثهما } .
ومع اليقين في وعد الله بالحفظ والتمكين لم ينس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السنة الشرعية، فقد كانت هناك خطة محكمة فريدة تتمثل في اختيار الغار وتضليل المشركين بجهته، ثم كان ما تحدثت عنه عائشة رضي الله عنها بقولها: {ثم لحق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بـغار في جبل ثور فمكثا فيه ثلاث ليال، يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثـقـف لقن، فيدلج عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بـمكة كبائت، فلا يسمع أمراً يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام.
ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل -وهو لبن منحتهما ورضيفهما- حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث.
واستأجر رسول الله صلى الله عليه سلم وأبو بكر رجلاً من بني الديل فأمناه، فدفعا إليه راحلتيهما، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل، فأخذ بهم طريق السواحل}.
وبقدر ما كانت الهجرة إلى المدينة ووضع نواة الدولة الإسلامية خلاصاً للدعوة، وخروجاً بها من مأزق الجمود والحصار الذي كان مضروباً عليها بـمكة, كانت -أيضاً- بداية لمصارعة قوى جديدة، والعمل في محيط لا يقل عداء وصعوبة عن مكة، وإن تغير الموقف في الظاهر.
فقد كان على الدعوة أن تصارع العرب المشركين قاطبة -وليس قريشاً وحدها- واليهود -أمكر خلق الله وأحقدهم- والمنافقين -ذلك العدو الأرقط الجديد- وأن تحسب الحساب -أيضاً- لمجابهة الدولتين العظميين فارس والروم. وهذا يستدعي تكاليف باهظة وتبعات جديدة.
هذا كله وهو إلى جانب العبء الأساسي وهو تزكية هذه الجماعة المؤمنة، وإيجاد الترابط الإيماني المنشود بينهما، وإعدادها لحمل الأمانة العظمى.
ومنذ أن حمل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده الشريفة اللبن لبناء المسجد لم يزل بانياً لصرح ما شهد العالم الأرضي مثله حتى لقي ربه، فقد بنى -بأمر ربه وإذنه- أمة فذة ودولة فريدة تتقاصر دونهما أحلام الحكماء وتخيلات الشعراء.
لقد كانت الجماعة الأولى فذة في تركيبها ومنهجها ونموها وحركتها، كل ذلك لأن عين الله تعالى ترعاها ووحيه يربيها ويزكيها.
لكن كيف كانت التزكية؟
أهي الأوامر والنواهي وحدها؟
أم التصورات الاعتقادية المجردة؟!
كلا بل كانت حلقات قاسية من المعاناة والتربية بالأحداث والتجارب والفتنة والابتلاء.
12- فبعد سنة ونصف -تقريباً- من بناء المسجد كانت معركة بدر، وهي أعظم وأعمق الأحداث في تلك المرحلة، بل ربما كانت أول مواجهة حربية بين كتيبة الإيمان وجيوش الشرك منذ المعركة التي خاضها طالوت وداود مع جالوت وجنوده وهذا يعطيها قيمة كونية كبرى.
وليس المجال هنا مجال الحديث عن بدر وفضل من شهدها وقيمتها العظيمة تلك، وإنما المراد أن نقول: ''إنه مع كل عظمة هذه الغزوة فإن قيمتها لا تتضح أبعادها الحقيقية إلا حين نعرف طبيعتها، وحين نراها حلقة من حلقات الجهاد في الإسلام، وحين ندرك بواعث هذا الجهاد وأهدافه، كذلك نحن لا ندرك طبيعة الجهاد في الإسلام وبواعثه وأهدافه قبل أن نعرف طبيعة هذا الدين ذاته" .
إن هذه المعركة هي بداية مرحلة عليا من مراحل الجهاد، وهي مرحلة ((وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ))[البقرة:193] .
ومن مراحل الجهاد المتدرجة -ومن هذه المرحلة خصوصاً- تتجلى سمات أصيلة وعميقة في هذا المنهج الحركي لهذا الدين استنبط الأستاذ سيد قطب رحمه الله منها أربعاً:
* '' السمة الأولى: هي الواقعية الجديدة في منهج هذا الدين.
فهو حركة تواجه واقعاً بشرياً، وتوجهه بوسائل مكافئة لوجوده الواقعي، إنها تواجه جاهلية اعتقادية تصورية تقوم عليها أنظمة واقعية عملية تسندها سلطات ذات قوة مادية.
ومن ثم تواجه الحركة الإسلامية هذا الواقع بما يكافئه، تواجهه بالدعوة والبيان لتصحيح المعتقدات والتصورات، وتواجهه بالقوة والجهاد لإزالة الأنظمة والسلطات القائمة عليها، تلك التي تحول بين جمهرة الناس وبين التصحيح بالبيان للمعتقدات والتصورات، وتخضعهم بالقهر والتضليل وتعبدهم لغير ربهم الجليل ''.
وإذا كانت هذه الحركة لا تكتفي بالبيان في وجه السلطان المادي، فكيف يتصور بحال من الأحوال أن تكون نظرية حبيسة داخل عقول أصحابها ويكونون مع ذلك مؤمنين بها حقاً؟!
* '' السمة الثانية: في منهج هذا الدين هي الواقعية الحركية.
فهو حركة ذات مراحل، كل مرحلة لها وسائل متكافئة لمقتضياتها وحاجاتها الواقعية، وكل مرحلة تسلم إلى المرحلة التي تليها، فهو لا يقابل الواقع بنظريات مجردة، كما أنه لا يقابل مراحل هذا الواقع بوسائل متجمدة.... ''
فهو ليس حركة وعملاً وحسب بل حركة دائبة وعمل متجدد.
'' * والسمة الثالثة: هي أن هذه الحركة الدائبة والوسائل المتجددة لا تخرج هذا الدين عن قواعده المحددة، ولا عن أهدافه المرسومة.
فهو منذ اليوم الأول -سواء وهو يخاطب العشيرة الأقربين، أو يخاطب قريشاً، أو يخاطب العرب أجمعين، أو يخاطب العالمين- إنما يخاطبهم بقاعدة واحدة، ويطلب منهم الانتهاء إلى هدف واحد وهو إخلاص العبودية لله والخروج من العبودية للعباد لا مساومة في هذه القاعدة ولا لين، ثم يمضي إلى تحقيق هذا الهدف الواحد في خطة مرسومة ذات مراحل محددة، لكل مرحلة وسائلها المتجددة، على نحو ما أسلفناه في الفقرة السابقة '' .
إن الجهاد من حيث هو قمة العمل في الإسلام وذروة سنامه ليكشف لنا بصدق وواقعية عن طبيعة هذا الدين، ومهمته في الأرض، وأهدافه العليا التي أراد الله تحقيقها في عالم الثقلين، ولقد سبق أن ألمحنا بإيجاز عن حالة العالم الإنساني في فجر الرسالة، وأشرنا إلى العبودية التي كانت البشرية تمارسها للطواغيت والأهواء والأحبار والرهبان، وهذا ما يشير لنا إلى مهمة هذا الدين وأهدافه التي كان الجهاد أحد -أو أبرز- وسائل تحقيقها.
''إن هذا الدين إعلان إلهي عام لتحرير الإنسان في الأرض من العبودية للعباد ومن العبودية لهواه أيضاً -وهي من العبودية للعباد-، وذلك بإعلان ألوهية الله وحده سبحانه وربوبيته للعالمين.
إن إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها: الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها، والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر بصورة من الصور، أو بتعبير آخر مرادف: الألوهية فيه للبشر في صورة من الصور، ذلك أن الحكم الذي مرد الأمر فيه إلى البشر، ومصدر السلطات فيه هم البشر، هو تأليه للبشر يجعل بعضهم لبعض أرباباً من دون الله.
إن هذا الإعلان معناه انتزاع سلطان الله المغتصب ورده إلى الله وطرد المغتصبين له , الذين يحكمون الناس بشرائع من عند أنفسهم، أو يرسمون لهم مناهج للتعبد والتقرب غير ما شرعه الله فيقومون منهم مقام الأرباب ويقوم الناس منهم مقام العبيد، إن معناه تحطيم مملكة البشر لإقامة مملكة الله في الأرض، أو بالتعبير القرآني الكريم:
((وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ))[الزخرف:84].
((إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ))[يوسف:40].
((قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ))[آل عمران:64].
وقيام مملكة الله في الأرض وإزالة مملكة البشر وانتزاع السلطان من أيدي مغتصبيه من العباد ورده إلى الله وحده، وسيادة الشريعة الإلهية وحدها وإلغاء القوانين البشرية، كل ذلك لا يتم بمجرد التبليغ والبيان، لأن المتسلطين على رقاب العباد، المغتصبين لسلطان الله في الأرض، لا يسلمون في سلطانهم بمجرد التبليغ والبيان، وإلا فما كان أيسر عمل الرسل في إقرار دين الله في الأرض، وهذا عكس ما عرفه تاريخ الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وتاريخ هذا الدين على مر الأجيال ''.
بل حتى الأفراد أنفسهم وهم الذين عبَّدوا أنفسهم لغير الله من الأوثان والطواغيت المختلفة ليس لدى أكثرهم استعداد لترك ما ألفته النفس وسار عليه الآباء والأجداد ويعيش عليه المجتمع كله لمجرد التبليغ والبيان، بل إن ما في نفوسهم من حواجز الكبر والعناد والتمرد لا يقل عن الحواجز الضخمة التي يضعها البشر المتألهون دون شعوبهم المستعبدة.
وإزاء هذه الاعتبارات فإن '' هذا الإعلان العام لتحرير الإنسان في الأرض من كل سلطان غير سلطان الله وإعلان ألوهية الله وحده وربوبيته للعالمين، لم يكن إعلاناً نظرياً فلسفياً سلبياً، إنما كان إعلاناً حركياً واقعياً وإيجابياً، إعلاناً يراد له التحقيق العملي في صورة نظام يحكم البشر بشريعة الله، ويخرجهم -بالفعل- من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك، ويظل يحرسهم من الانحراف ويسددهم للاستقامة على العبودية الخالصة لله وحده, ومن ثم لم يكن بد من أن يتخذ شكل الحركة إلى جانب شكل البيان، ذلك ليواجه الواقع البشري بكل جوانبه بوسائل مكافئة لكل جوانبه.
والواقع الإنساني -أمس واليوم وغداً- يواجه هذا الدين بوصفه إعلاناً عاماً لتحرير الإنسان في الأرض من كل سلطان غير سلطان الله بعقبات اعتقادية تصورية، وعقبات مادية واقعية، وعقبات سياسية واجتماعية واقتصادية وعنصرية وطبقية، إلى جانب عقبات العقائد المنحرفة والتصورات الباطلة، وتختلط هذه بتلك وتتفاعل معها بصورة معقدة شديدة التعقيد.
وإذا كان البيان يواجه العقائد والتصورات فإن الحركة تواجه العقبات المادية الأخرى، وفي مقدمتها السلطان السياسي القائم على العوامل الاعتقادية التصورية والعنصرية والطبقية والاجتماعية والاقتصادية المعقدة المتشابكة، وهما معاً -البيان والحركة- يواجهان الواقع البشري بجملته بوسائل مكافئة لكل مكوناته، وهما معاً لابد منهما لانطلاق حركة تحرير للإنسان في الأرض، الإنسان كله في الأرض كلها '' .